فصل: قال حميدان دعاس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.البلاغة:

اختلف علماء البلاغة والنحو: هل التكرار في هذه السورة للتأكيد أم لا وإذا لم يكن للتأكيد فبأي طريق حصلت المغايرة حتى انتفى التأكيد، وسنورد أقوالهم مع إلماع لابد منه إليها.
1- فقال جماعة: التكرار للتأكيد فقوله: {ولا أنا عابد ما} عبدتم تأكيد لقوله: {لا أعبد ما تعبدون}، وقوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} تأكيد لقوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد}، ومثله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}، و{ويل يومئذ للمكذبين}، و{كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون}، و{كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون}، وفائدة هذا التأكيد هنا قطع أطماع الكفار وتحقيق الإخبار بموافاتهم الكفر وأنهم لا يسلمون أبدا.
2- وقال جماعة: ليس التكرار للتوكيد، قال الأخفش: لا أعبد الساعة ما تعبدون ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد فزال التوكيد وحصل التأسيس حيث تقيدت كل جملة بزمان غير الزمان الآخر. وفي هذا القول نظر كيف يقيد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نفي عبادته لما يعبدون، هذا مما لا يصحّ.
3- وقال ابن عطية: لما كان قوله: {لا أعبد} محتملا أن يراد به الآن ويبقى المستقبل منتظرا ما يكون فيه جاء البيان بقوله: {ولا أنا عابد ما عبدتم} أي أبدا ثم جاء قوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} الثاني حتما عليهم أنهم لا يؤمنون أبدا فهذا معنى الترديد في هذه السورة وهو بارع الفصاحة وليس بتكرار فقط بل فيه ما ذكرته.
4- وقال الزمخشري: لا أعبد أريد به العبادة فيما يستقبل لأن (لا) لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الاستقبال كما أن (ما) لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال والمعنى لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلبه منكم من عبادة إلهي {ولا أنا عابد ما عبدتم} أي وما كنت قطّ عابدا فيما سلف ما عبدتم فيه يعني ما عهد منّي قطّ عبادة صنم في الجاهلية فكيف يرجى منّي في الإسلام، {ولا أنتم عابدون ما أعبد} أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته الآن.
5- وقال أبو حيان: والذي اختاره في هذه الجمل أنه نفى عبادته في المستقبل لأن الغالب في (لا) أن تنفي المستقبل ثم عطف عليه: {ولا أنتم عابدون ما أعبد}، نفيا للمستقبل على سبيل المقابلة ثم قال: {ولا أنا عابد ما عبدتم} نفيا للحال لأن اسم الفاعل العامل الحقيقة فيه دلالته على الحال ثم عطف عليه {ولا أنتم عابدون ما أعبد} نفيا للحال على سبيل المقابلة فانتظم المعنى أنه عليه الصلاة والسلام لا يعبد ما يعبدون حالا ولا مستقبلا وهم كذلك إذ ختم اللّه موافاتهم على الكفر، ولما قال: لا أعبد ما تعبدون وأطلق على الأصنام ما قابل الكلام بما في قوله: {ما أعبد} وإن كان المراد بها اللّه تعالى لأن المقابلة يسوغ فيها ما لا يسوغ في الانفراد وهذا على مذهب من يقول إن ما لا تقع على آحاد أولي العلم أما من يجوّز ذلك وهو سيبويه فلا يحتاج إلى الاعتذار بالتقابل.
6- وقال القرطبي: وقيل هذا أي التكرار مطابقة لقولهم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك فنجري على هذا أبدا سنة وسنة فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده أي إن هذا لا يكون أبدا، وقال ابن عباس قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم نحن نعطيك من المال ما تكون به أغنى رجل بمكة ونزوّجك من شئت ونطأ عقبك أي نمشي خلفك وتكفّ عن شتم آلهتنا فإن لم تفعل فنحن نعرض عليك خصلة واحدة وهي لنا ولك صلاح تعبد آلهتنا اللّات والعزّى سنة ونحن نعبد إلهك سنة ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك فنجري على هذا أبدا سنة وسنة فنزلت السورة فكان التكرار في لا أعبد ما تعبدون لأن القوم كرروا مقالتهم مرة بعد مرة.
7- وقال ابن الأثير في مثله السائر: وقد ظن قوم أن هذه الآية تكرير لا فائدة فيه وليس الأمر كذلك فإن معنى قوله: {لا أعبد} يعني في المستقبل من عبادة آلهتكم ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلبه منكم من عبادة إلهي {ولا أنا عابد ما عبدتم} أي وما كنت عابدا قطّ فيما سلف ما عبدتم فيه يعني أنه لم يعهد منّي عبادة صنم في الجاهلية في وقت ما فكيف يرجى ذلك منّي في الإسلام ولا أنتم عابدون في الماضي في وقت ما ما أنا على عبادته الآن. وهذا ترديد لما قاله الزمخشري بنصّه وفصه.
8- وقال ابن خالويه: فإن سأل سائل فقال: ما وجه التكرير في هذه السورة فقل معناه أن قوما من كفّار قريش صاروا إلى النبي فقالوا أنت سيد بني هاشم وابن ساداتهم ولا ينبغي أن تسفّه أحلام قومك ولكن نعبد نحن ربك سنة وتعبد أنت آلهتنا سنة فأنزل {قل يا أيّها الكافرون} إلخ فإن قال قائل: فقد كان فيهم من أسلم بعد ذلك الوقت فلم قيل: {ولا أنتم عابدون}؟ فالجواب في ذلك أن هذا نزل في قوم بأعيانهم ماتوا على الكفر وعلم اللّه تعالى ذلك منهم فأخبر أنهم لا يؤمنون أبدا كما قال تعالى: سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون في قوم بأعيانهم وقد نفعت الموعظة قوما وفيه جواب آخر: أن يكون الخطاب عاما ويراد به الخاص لمن لا يؤمن وإن كان فيهم من قد آمن. اهـ.

.قال أبو البقاء العكبري:

سورة الكافرون:
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {ما تعبدون} يجوز أن تكون {ما} بمعنى الذى، والعائد محذوف وأن تكون مصدرية ولا حذف، والتقدير: لا أعبد مثل عبادتكم، والله أعلم. اهـ.

.قال حميدان دعاس:

سورة الكافرون:
بسم الله الرحمن الرحيم

.[سورة الكافرون: آية 1]

{قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1)}
{قُلْ} أمر فاعله مستتر والجملة ابتدائية لا محل لها {يا} حرف نداء (أي) منادى نكرة مقصودة (ها) للتنبيه {الْكافِرُونَ} صفة أو بدل والجملة مقول القول.

.[سورة الكافرون: آية 2]

{لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2)}
{لا أَعْبُدُ} لا نافية ومضارع فاعله مستتر {ما} اسم موصول مفعول به والجملة حال {تَعْبُدُونَ} مضارع مرفوع والواو فاعله والجملة صلة.

.[سورة الكافرون: آية 3]

{وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3)}
{وَلا} الواو حرف عطف {لا} نافية {أَنْتُمْ} مبتدأ {عابِدُونَ} خبر والجملة معطوفة على ما قبلها {ما} مفعول به لاسم الفاعل {أَعْبُدُ} مضارع فاعله مستتر والجملة صلة ما.

.[سورة الكافرون: آية 4]

{وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)}
{وَلا} الواو حرف عطف {لا} نافية {أَنا عابِدٌ} مبتدأ وخبره والجملة معطوفة على ما قبلها {ما} مفعول به {عَبَدْتُّمْ} ماض وفاعله والجملة صلة.

.[سورة الكافرون: آية 5]

{وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5)}
انظر الآية- 3-.

.[سورة الكافرون: آية 6]

{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}
{لَكُمْ دِينُكُمْ} {لكم} خبر مقدم و{دينكم} مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها {وَلِيَ دِينِ} معطوفة على ما قبلها. اهـ.

.فصل في تخريج الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:

قال الزيلعي:
سورة الكافرون حَدِيث واحد:
1548- عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سُورَة الْكَافِرُونَ فَكَأَنَّمَا قرأ ربع القرآنوَتَبَاعَدَتْ مِنْهُ مَرَدَة الشَّيَاطِين وَبرئ من الشّرك وتعافى من الْفَزع الْأَكْبَر».
قلت رَوَاهُ الثَّعْلَبِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن عمرَان بن أبي لَيْلَى ثني أبي عَن مجَالد عَن الْحجَّاج بن عبد الله عَن أبي الْجَلِيل عَن زر بن حُبَيْش عَن أبي ابْن كَعْب قال قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سُورَة الْكَافِرُونَ...».
وَرَوَاهُ ابْن مرْدَوَيْه فِي تَفْسِيره بِسَنَدِهِ الثَّانِي إِلَّا أَنه قال: «وَيُعَافَى من فزع الْيَوْم فَمروا صِبْيَانكُمْ أَن يَقْرَءُوهَا عِنْد الْمَنَام فَلَا يعرض لَهُم شَيْء» انتهى.
وَرَوَاهُ الواحدي فِي الْوَسِيط بِسَنَدِهِ فِي يُونُس بِلَفْظ المُصَنّف. اهـ.

.من مجازات القرآن في السورة الكريمة:

قال ابن المثنى:
سورة قل يا أيّها الكافرون (109):
بسم الله الرحمن الرحيم
{لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ} (2- 3) أي لا أعبد الآن ما تعبدون ولا أجيبكم فيما بقي أن أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد، إلا أنّه في التمثيل أن الكافرين دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يعبد آلهتهم ويعبدون هم إله النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمنون به فيما مضى والآن فأنزل اللّه عليه لا أعبد ما تعبدون في الجاهلية ولا أنتم عابدون ما أعبد في الجاهلية والإسلام..
{وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ} (4) الآن ما أعبد، أي لا أعبد الآن ما تعبدون ولا أجيبكم فيما بقي أن أعبد ما تعبدون. {وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ}. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة الكافرون:
{قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد}. هذا المعنى المقرر هنا يشبه ما تقرر في سورة أخرى {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض}. إن توحيد العقائد والمذاهب مستحيل. ومن الخير الاعتراف بتعدد المشارب والنزعات، ومواجهة ذلك بالحكمة والوعى. وقد حكى القرآن الكريم زبدة تاريخ البشر في سورة هود، والصراع الشديد بين المؤمنين والكفار على امتداد العصور. ثم قال للنبى الكريم: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين}.
{إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم...}. إننا نحن المسلمين لا نسعى إلى محو الأديان المخالفة، وقد أجمع المحققون على أن الإسلام ما يقاتل إلا منعا للفتنة وردا للعدوان. وكل قتال للإكراه على عقيدة، فهو من نزع الشياطين وجبروت السلاطين، ولا نتيجة له إلا مزيد من الأحقاد. ولذلك تكرر في هذه السورة بعد ذلك {ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين}. إن هذه السورة من أحكم ما تؤسس عليه العلاقات الدولية. فلنعترف بتعدد الأديان، ولندع للجدال! الحسن والحوار الهادئ أن يمتد وتعقد مجالسه. ولكننى مضطر هنا لإنكار ما تكنه بعض السلطات العالمية من ضيق بالإسلام وضن عليه بحق الحياة. ولابد من المصارحة بأن الدم لن يجف حتى تختفى هذه الرغبة الشريرة، ويسترد الإسلام قدرته على إثبات نفسه وحماية شرائعه وضمان تطبيقها على أتباعه. فهل يعقل ذلك الاستعماريون؟. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة الكافرون:
أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى لما قال: {فصل لربك} أمره أن يخاطب الكافرين بأنه لا يعبد إلا ربه، ولا يعبد ما يعبدون، وبالغ في ذلك فكرر، وانفصل منهم على أن لهم دينهم وله دينه. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 6):

قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
{بسم الله} المحيط علما وقدرة، فهو الواحد الذي لا يستطيع أحد أن يقدر قدره (الرحمن) الذي عم برحمة البيان من أوجب عليهم شكره (الرحيم) الذي خص أهل وده فالتزموا نهيه وأمره.
لما أخبره في الكوثر أن العريق في شنآنه عدم، وجب أن يعرض عنه ويقبل بكليته على من أنعم عليه بذلك، فقال معلمًا له ما يقول ويفعل: {قل} ولما كان شائنه أعرق الخلق في الضلال والبعد من الخير، قال مناديًا له بأداة البعد وإن كان حاضرًا معبرًا بالوصف المؤذن بالرسوخ: {يا أيها الكافرون} أي الذين قد حكم بثباتهم على الكفر فلا انفكاك لهم عنه فستروا ما تدل عليه عقولهم من الاعتقاد الحق لو جردوها من أدناس الحظ، وهم كفرة مخصوصون وهم من حكم بموته على الكفر بما طابقه من الواقع، وبما دل عليه التعبير بالوصف دون الفعل، واستغرقت اللام كل من كان على هذا الوصف في كل مكان وكل زمان، وإنما عبر بالجمع الذي هو أصل في القلة وقد يستعار للكثرة إشارة إلى البشارة بقلة المطبوع على قلبه من العرب المخاطبين بهذا في حياته صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى حقارة الكافر وذلته وإن كان كثيرًا- كما يشير إليه جعل كل كلمة منها بحرف من الكوثر كما سيأتي، وفي مناداتهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدتهم ومحل عزهم وحميتهم إيذان بأنه محروس منهم علمًا من أعلام النبوة.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما أنقضى ذكر الفريقين المتردد ذكرهما في الكتاب العزيز من أوله إلى آخره على اختلاف أحوال كل فريق وشتى درجاتهم، وأعني بالفريقين من أشير إليه في قوله سبحانه وتعالى: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} فهذا طريق أحد الفريقين، وفي قوله: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} إشارة إلى طريق من كان في الطرف الآخر من حال أولئك الفريق إذ ليس إلا طريق السلامة أو طريق الهلاك {فريق في الجنة وفريق في السعير} [الشورى: 7] {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} [التغابن: 2] والسالكون طريق السلامة فأعلى درجاتهم مقامات الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم أتباعهم من صالحي العباد وعلمائهم العاملين وعبادهم وأهل الخصوص منهم والقرب من أحوال من تنسك منهم، ورتبتهم مختلفة وإن جمعهم جامع وهو قوله: {فريق في الجنة} وأما أهل التنكب عن هذا الطريق وهم الهالكون فعلى طبقات أيضًا، ويضم جميعهم طريق واحد فكيفما تشعبت الطرق فإلى ما ذكر من الطريقين مرجعهما، وباختلاف سبل الجميع عرفت آي الكتاب وفصلت، ذكر كله تفصيلًا لا يبقى معه ارتياب لمن وفق، فلما انتهى ذلك كله بما يتعلق به، وتداولت بيانه الآي من لدن قوله بعد أم القرآن {هدى للمتقين} [البقرة: 2] إلى قوله: {إن شانئك هو الأبتر} أتبع ذلك بالتفاصيل والتسجيل فقال تعالى: {قل يا أيها الكافرون} فبين سبحانه أن من قضي عليه بالكفر والوفاة عليه لا سبيل له إلى خروجه عن ذلك، ولا يقع منه الإيمان أبدًا.
{ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلًا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} [الأنعام: 111] ولو أنهم بعد عذاب الآخرة ومعاينة العذاب والبعث وعظيم تلك الأهوال وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا وقولهم: {ربنا فارجعنا نعمل صالحًا غير الذي كنا نعمل} [السجدة: 12] فلو أجيبوا إلى هذا ورجعوا لعادوا إلى حالهم الأول {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 128] تصديقًا لكلمة الله وإحكامًا لسابق قدره {أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار} [الزمر: 19] فقال لهم: {لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد} إلى آخرها، فبان أمر الفريقين وارتفع الإشكال، واستمر كل على طريقه {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [فاطر: 8] {إن عليك إلا البلاغ} [الشورى: 48] فتأمل موقع هذه السورة وأنها الخاتمة لما قصد في الكتاب يلح لك وجه تأخيرها- والله أعلم- انتهى.
ولما كان القصد إعلامهم بالبراءة منهم من كل وجه، وأنه لا يبالي بهم بوجه لأنه محفوظ منهم، قال مؤذنًا بصدق خبره تعالى آخر الكوثر من حيث إنه مع الجزم بالمنابذة لا يستطيعون له نوع مكابدة نافذة، بادئًا بالبراءة من جهته لأنها الأهم: {لا أعبد} أي الآن ولا في مستقبل الزمان لأن {لا} للمستقبل و{ما} للحال، كذا قالوا، وظاهر عبارة سيبويه في قوله: {لن} نفي لقوله: {سيفعل} {ولا} لقوله: {يفعل}، ولم يقع: أنها تقع للمضارع الذي لم يقع سواء كان في غاية القرب من الحال أم لا، كما نقلته عنه في أول البقرة عند {ولن تفعلوا} [البقرة: 24] على أن نطقنا بهذا الكلام لا يكاد يتحقق حتى يمضي زمن فيصير مستقبلًا، فلذا عبر بـ: (لا) دون (ما) بشارة بأنه سبحانه يثبته على الصراط المستقيم، ولا يظفرهم به- علمًا من أعلام النبوة. ولما كان في معبوداتهم ما لا يعقل، وكان المقصود تحقير كل ما عبدوه سوى الله، عبر بـ: {ما} فقال: {ما تعبدون} أي الآن وفي آتي الزمان من دون الله من المعبودات الظاهرة والباطنة بوجه من وجوه العبادة في سر ولا علن لأنه لا يصلح للعبادة بوجه.
ولما بدأ بما هو الأحق بالبداءة وهو البراءة من الشرك، والطهارة من وضر الإفك، لأنه من درء المفاسد، فأبلغ في ذلك بما هو الحقيق بحاله صلى الله عليه وسلم، وكانوا هم يعبدون الله تعالى على وجه الإشراك، وكانت العبادة مع الشرك غير معتد بها بوجه، نفى عبادتهم له في الجملة الاسمية الدالة على الثبات لا في الفعلية الدالة على نفي كل قليل وكثير من حيث إن الفعل نكرة في سياق النفي فقال: {ولا أنتم عابدون} أي عبادة معتدًا بها بحيث يكون أهلًا لأن تكون وصفًا ثابتًا.
ولما كانوا لا نزاع لهم في أن معبوده عالم، وكانت {ما} صالحة للإطلاق عليه سبحانه وتعالى، عبر فيه أيضًا بها لأن ذلك- مع أنه لا ضرر فيه- أقرب إلى الإنصاف، فهو أدعى إلى عدم المراء أو الخلاف- فقال: {ما أعبد} أي الآن وما بعده لأن معبودي- وله العلم التام والقدرة الشاملة- أبعدكم عنه فلا مطمع في الوفاق بيننا.
ولما كان ما نفى عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل فيه الماضي، وكان عدم المشاركة بوجه من الوجوه في زمن من الأزمان أدل على البراءة وأقعد في دوام الاستهانة، وكانوا يعدون سكوته صلى الله عليه وسلم عنهم فيما قبل النبوة عبادة، وكانوا غير مقتصرين على عبادة أصنامهم التي اتخذوها، بل إذا خرجوا من الحرم فنزلوا منزلًا نظروا لهم حجرًا ليستحسنوه فيعبدونه، فإن لم يروا حجرًا جمعوا شيئًا من تراب وحلبوا عليه شيئًا من لبن وعبدوه ما داموا في ذلك المنزل، وكان ذلك من أشد ما يعاب به من جهة عدم الشباب وأنه لا معبود لهم معين، قال منبهًا على ذلك كله: {ولا أنا عابد} أي متصف بعبادة {ما عبدتم} أي فيما سلف، لم يصح وصفي قط بعبادة ذلك من أول زمانكم إلى ساعاتنا هذه، فكيف ترجون ذلك مني وأنا لم أفعله ولا قبل النبوة ولا كان من شأني قط.
ولما كان هو صلى الله عليه وسلم ثابتًا على إله واحد لم يعبد غيره ولم يلتفت يومًا لفت سواه، وكان قد انتفى عنه بالجملتين هذه الماضية التي أول السورة أن يعبد باطلهم حالًا أو مآلًا، وأن يكون عبده قبل ذلك، وكان ربما ظن ظان أن النفي عنهم إنما هو لعبادة معبوده في الحال، نفى ذلك في الاستقبال أيضًا علمًا من أعلام النبوة مع تأكيد ما أفادته الجملة الماضية جريا على مناهيج العرب في التأكيد قطعًا لآمالهم منه على أتم وجه وآكده لأنه على وجه لا يقدرون عليه لما تفيده كل جملة مع التأكيد من فائدة جديدة مهمة، فقال: {ولا أنتم عابدون} أي عبادة هي لكم وصف معتد به في الحال أو الاستقبال.
ولما لم يكن قبل البعث مشهورًا عندهم بعبادة الله سبحانه وتعالى، عبر بما لا يتوجه لهم إليه إنكار، وهو المضارع الذي ظاهره الحال أو الاستقبال مرادًا به ما يشمل الماضي لما ذكر أبو حيان وغيره في سورة الحج عند {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله} [الحج: 25] من أنه يطلق المضارع مرادًا به مجرد إيقاع الفعل من غير نظر إلى زمان معين، فقال: {ما أعبد} أي وجدت مني عبادته واتصفت بها الآن وفي ماضي الزمان ومستقبله اتصافًا يعتد به.
ولما كان ذلك كله، وبدأ النفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه صلى الله عليه وسلم إيذانًا بالاهتمام ببراءته منهم، أنتج قطعًا مقدمًا لما يتعلق بهم على وجه اختصاصهم به تأكيدًا لما صرح به ما مضى من براءته منهم: {لكم} أي خاصة {دينكم} أي الذي تعلمون أنه لا أصل له يثبت عليه، ولا دليل يرجع بوجه إليه، لا أشارككم فيه بوجه ولا ترجعون عنه بوجه بل تموتون عليه موتًا لبعضكم حتف الأنف والآخرين قتلًا على يدي بالسيف {ولي} أي خاصة {دين} من واسع روضة الإسلام إلى أعلى مقام: مقام الإيقان والإحسان، وأنتم تعلمون- لو جردتم عقولكم عن الهوى وأخلصتم أفكاركم من الحمية والإبا- أنه كله دليل وفرقان ونور وحجة وبرهان، لا تشاركونني فيه بوجه، ولا تقدرون على ردّي عنه أصلًا، فكانت هذه علمًا من أعلام النبوة من حيث إنه مات منهم ناس كثير بعد ذلك على الكفر وأتم الله له هذا الدين، فصدق سبحانه فيما قال، وثبت مضمون الكوثر بأكمل استدلال، وأما من آمن بعد ذلك فليس مرادًا لأنه لم يكن عريقًا في وصف الكفران، ولا راسخًا في الضلال والطغيان، فأسعده وصف الإسلام والإيمان، وساق الجمل كلها غير مؤكد إشارة إلى أنها من الوضوح في حد لا خفاء به أصلًا، ولا شك أن آخرها الذي هو اختصاص كل بدينه هو أولها الذي أفاد أنه لا يعبد معبودهم ولا يعبدون معبوده فصار آخرها أولها، ومفصلها موصلها- هذا هو الذي دل عليه السياق، وليس فيه إذن في الكفر ولا منع عن الجهاد ليحتاج إلى نسخ، ومن أعظم الدلائل إعجازها وجمعها للمعاني في إشارتها وإيجازها أن حاصلها قطع رجاء أهل الكفران من أن يقاربهم النبي صلى الله عليه وسلم في أن يعدل بربه أحدا في زمن من الأزمان، وذلك من أعظم مقاصد المناظرة لها في رد الآخر على أول الأنعام لأنها السادسة في العد من الأول، كما أن هذه السادسة في العد من الآخر {أغير الله اتخذ وليًا} [الأنعام: 14] {أفغير الله ابتغي حكمًا} [الأنعام: 114] {أغير الله أبغي ربًا وهو رب كل شيء} [الأنعام: 164] إلى غير ذلك من الآيات، والفواصل والغايات، هذا ما يتعلق بمعاني تراكيبها ونظومها على ما هي عليه وتراتيبها وسياقاتها وأساليبها، وكلماتها الخطية سبع وعشرون إلى أربع كلمات البسملة إحدى وثلاثون إلى أربعة ضمائر مستترة خمس وثلاثون إلى تسعة بارزة، فتلك أربع وأربعون كلمة الضمائر منها ثلاثة عشر هي مدة الإقامة بمكة المشرفة قبل الهجرة لأنها في الخفاء كالضمائر في خزائن السرائر، ولاسيما الأربع الأول منها الموازية لضمائر الاستتار وغير الضمائر إحدى وثلاثون المناظر لها من السنين سنة إحدى وثلاثين، وهي سنة قتل يزدجرد ملك الفرس أكفر الكفرة من أهل ذلك الزمان وأعتاهم، وموافقة كلماتها في العدة لأحرف الكوثر مشيرة إلى أن اليسير من أتباعه صلى الله عليه وسلم أكثر وأكبر من كثير شانئيه وأضداده وحاسديه، وقد دل على ذلك شاهد الوجوه في يوم الفتح والمسلمون عشرة آلاف، والكفار من قريش وممن حولهم لا يحصون كثرة، وقد كان فعلهم في ذلك اليوم ما شهد به اعتذار حماس الذي كان يعد امرأته أن يخدمها بعض المسلمين في قوله وقد فر هاربًا ولم يستطع أن يغلق وراءه، بل قال لها: أغلقي بابي، فقالت له: أين ما كانت تعدني به؟ فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندمه ** إذ فر صفوان وفر عكرمه

واستقبلتهم بالسيوف المسلمه ** يقطعن كل ساعد وجمجمه

ضربًا فلا يسمع إلا غمغمه ** بهم تهيب خلفنا وهمهمه

لم تنطقي باللوم أدنى كلمه

هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أوصاهم ألا يقاتلوا إلا من بدأهم بالقتال.
وهذا مع ما كان من أهل الإسلام حين قصدهم الكفار يوم الخندق والمشركون في عشرة آلاف وهم لا يبلغون ربعهم ولا مدد لهم ممن حولهم ولا ناصر إلا الله، بل جاءتهم الأعداء- كما قال الله تعالى: {من فوقهم ومن أسفل منهم} [الأحزاب: 10] {وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا} [الأحزاب: 22] وإلى هذا أيضًا أشار بلوغ عدد كلمات النصر خطيها واصطلاحيها ظاهرها ومستترها إلى عدد كلمات الكافرون الخطية، فذلك رمز إلى أن أضعف أهل الإسلام لا يضعف عن مقاومة أهل الكفر وأرسخهم في كل صفة يريدها- والله هو الموفق. اهـ.